الأم روح الحياة


 

الأم... روح الحياة ونبع العطاء الذي لا ينضب


الأم هي رمز الحنان، وهي نبع الحب الصافي الذي لا يجف ولا يتبدل، بل يزداد تدفقًا مع مرور الأيام. هي الجسر الذي يعبر عليه الأبناء من الطفولة إلى النضج، وهي السند الذي يستندون إليه في لحظات الضعف، وهي الحضن الذي يلجأون إليه عند الخوف أو الألم. لا يوجد في هذه الدنيا إنسان أحن وأصدق من الأم، فهي تحب أبناءها حبًا لا يمكن أن يوصف بالكلمات، وتعطي دون أن تنتظر مقابلًا، وتسهر على راحتهم، وتتعب ليهنؤوا، وتبذل حياتها ليحظوا بمستقبل مشرق.

منذ اللحظة الأولى التي يتكون فيها الجنين في رحم أمه، تبدأ رحلته مع هذا الكائن العظيم. تتحمل الأم آلام الحمل بصبر وسعادة، وتفرح رغم تعبها عندما تشعر بأول حركة لجنينها، وترسم له في خيالها أجمل مستقبل، وتحلم باليوم الذي ستحتضنه فيه بين ذراعيها. ثم تأتي لحظة الولادة، وهي لحظة تختلط فيها المشاعر بين الألم والفرح، فالأم تتألم كثيرًا، لكنها تنسى كل ذلك بمجرد أن تسمع بكاء طفلها الأول، فهي تدرك أن هذا الصوت هو أعظم هدية منحها الله إياها. ثم تبدأ رحلة أخرى أكثر صعوبة، حيث تكرس حياتها لرعاية طفلها، تحمله بين ذراعيها وتسهر بجانبه ليالي طويلة إذا مرض، تطعمه بيديها، تغمره بحنانها، وتحيطه بعنايتها في كل لحظة. لا تهتم بنفسها بقدر ما تهتم به، تنسى تعبها أمام راحته، وتنسى جوعها أمام شبعِه.

وقد عبر الشاعر حافظ إبراهيم عن دور الأم وعظمتها في بيته الشهير:

الأمُّ مَدرسةٌ إذا أعددتَها
أعددتَ شعبًا طيّب الأعراقِ

وهذا دليل على أن الأم ليست فقط من تنجب الأطفال، بل هي التي تربي الأجيال، وتغرس فيهم القيم والمبادئ، وتمنحهم الأسس التي تجعلهم أفرادًا صالحين في المجتمع. الأم لا تتوقف عن العطاء عند مرحلة الطفولة، بل تظل تمنح أبناءها الحب والرعاية حتى بعد أن يكبروا. فهي التي تدعو لهم في كل صلاة، وهي التي تفرح لنجاحهم وكأنه نجاحها، وتحزن لفشلهم وكأنه فشلها. عندما يواجهون صعوبة في حياتهم، تكون هي أول من يقف إلى جانبهم، تواسيهم، تمنحهم القوة، وتطمئنهم بأن الأمور ستتحسن. حتى عندما يسيء إليها أبناؤها، فإن قلبها يظل مفتوحًا لهم، يسامحهم، ويحبهم بلا شروط.

وقد قال الشاعر:

أغرى أمرؤٌ يومًا غلامًا جاهلًا
بنقودهِ كيما ينالَ به الوطرْ
قال ائتني بفؤادِ أمكَ يا فتى
ولكَ الدراهمُ والجواهرُ والدّررْ
فمضى وأغمدَ خِنجَرًا في صدرِها
والقلبُ أخرجهُ وعادَ على الأثرْ
لكنهُ مِنْ فرْطِ سُرعتهِ هَوَى
فتدحرجَ القلبُ المُعَفَّرُ إذْ عَثَرْ
ناداهُ قلبُ الأمِّ وهو مُعَفَّرٌ
ولدي حبيبي هل أصابكَ مِنْ ضررْ؟!

وهذه الأبيات تعكس مدى حب الأم لأبنائها حتى لو قسوا عليها، فهي لا تفكر في نفسها، بل تفكر فيهم دائمًا، وتخشى عليهم حتى لو ظلموها. إلى جانب دورها في التربية، تلعب الأم دورًا محوريًا في تشكيل شخصية أبنائها وغرس القيم والمبادئ فيهم. فهي التي تعلمهم الصدق والأمانة، وهي التي تغرس فيهم معنى الحب والتسامح، وهي التي تعلمهم كيف يكونون أقوياء أمام التحديات، وكيف يكونون عطوفين مع الآخرين. لا يوجد تأثير أعظم من تأثير الأم في حياة الإنسان، فهي التي تزرع في قلب طفلها الرحمة والطيبة، وهي التي تعلمه كيف يكون إنسانًا صالحًا، وكيف يسلك طريق الحق والخير.

وقد قيل في ذلك:

ليستْ رُبُوعُ الأرضِ فيها سَعَادَتي
بلْ حيثُ تَحْضُرُ والدتي وحَيثُ تَكُونُ

مع كل هذا العطاء والتضحية، فإن أقل ما يمكن أن يقدمه الإنسان لأمه هو البرّ بها، والاهتمام بها، ورد الجميل لها وهي على قيد الحياة. فكم من ابنٍ ندم على تقصيره في حق أمه بعد وفاتها، وكم من شخصٍ شعر بالفراغ الكبير بعد فقدانها، حيث لا يوجد أحد في هذه الدنيا يمكن أن يعوض غياب الأم. لهذا، يجب على الإنسان أن يحسن إلى أمه، وأن يجعلها تشعر بأنها لم تضحِّ عبثًا، وأن كل ما بذلته من جهد قد أثمر.

وقد قال رسول الله ﷺ عندما سأله رجل: "يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك."

وهذا يدل على أن برّ الأم يأتي في المرتبة الأولى، لأنها أكثر من تعب وتحمل وقدم لأبنائه. أما حين ترحل الأم عن هذه الدنيا، فإن غيابها يترك فراغًا كبيرًا في حياة أبنائها. فلا أحد يمكنه أن يعوض مكانها، ولا يوجد حب يضاهي حبها. الكثير من الناس لا يدركون قيمة أمهاتهم إلا بعد فقدانهن، فيشعرون بالندم على كل لحظة لم يقدروا فيها وجودهن، ويتمنون لو يعود الزمن ليعوضوا تقصيرهم.

قال الشاعر:

وَدَاعًا أُمِّي يَا نُورَ العُيُونِ
فَبَعْدَكِ لَيْسَ لِلدُّنْيَا مَعْنَى أَوْ سُكُونِ
رَحَلْتِ وَتَرَكْتِ فِي القَلْبِ حُزْنًا
وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَكِ فِي الدُّنْيَا جُنُونِ

لذلك، فإن أفضل ما يمكن أن يفعله الإنسان بعد وفاة أمه هو أن يدعو لها دائمًا، ويتصدق عنها، ويعمل الأعمال الصالحة التي يهدي ثوابها لها، لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يصل إليها بعد رحيلها.

في الختام، تبقى الأم أعظم نعمة أنعم الله بها على الإنسان، فهي مصدر الحياة، وهي القلب الذي ينبض بالحب، وهي النور الذي يضيء الطريق. برّها واجب، واحترامها فرض، ورد الجميل لها ضرورة، لأن حبها لا يضاهيه أي حب آخر في الوجود. فالأم ليست مجرد شخص، بل هي حياة كاملة، وهي نعمة لا يعرف قيمتها إلا من فقدها.



_______________---------------------______________


هذه المقالة مقدمة لكم من مدونة مداد المعرفة، المصدر الأول للمقالات المتميزة

تعليقات

إرسال تعليق

نرحب بتعليقاتكم ! يرجى الحفاظ على الإحترام والتفاعل البناء

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مقالة عن فصل الخريف

تاريخ اليمن: من العصور القديمة إلى العصر الحديث

الكون وقدرة الله: رحلة في أعماق الوجود